الثلاثاء، 2 أبريل 2024

شوارد على ضفاف الربيع.


(١) 


هذه أنا مجدّدًا، على الطريق المؤدي إلى مدخل الحارة، في ظهيرة نهار رمضاني آخر تتوقد شمسه توقّدًا خفيفًا مخلّفة بعض البريق على الإسفلت، أستجيب لتلويحة زهرة صفراء صغيرة ثانية، أنعطف بسيّارتي إلى جانبها لكنني لا أغفل هذه المرة فأترك ناقل الحركة على (N) كما سبق أن فعلت -للمزيد من السياق تُقرأ تدوينة «موسم ربيع نجد»-، وكي لا يُساء فهم توقّفي ونزولي، كففت إصبعي عن تشغيل الومّاض (الفلشر)، خاصةً وأن سيارتي لم تعد على الطريق ولا حاجة لتنبيه أحد. 


 عقدت ذراعي أمام نبتة ربّما يبلغ ارتفاع ساقها نصف متر، لها أغصان رفيعة تنتهي بمجموعة زهور صفراء رباعيّة البتلات، يبدو طول البتلة الواحدة خمس ملِّيمترات، لم أجزم في البدء ما نوعها، غير أن ثمارها الخردلية المرئية من بعيد ألحّت عليّ لتقول إنها لا بد نوع من أنواع السّمارة، وقد كانت. «سمارة» اسم إحدى كبيرات السّن الذي ظننته دائمًا من السّمرة. إلا أن هذا قد بات غير منطقي بالنسبة لي، إذا ما نظرنا إلى أن أهل بادية نجد يصفون سُمرة البشرة بالخُضرة وسوادها بالزُرقة، قطعًا لن يكون اسم المؤنّث سْمَارَة من السُمرة! لا بد أنها من نبات السمارة، وقد كان أول أنواعها التي عرفت ما اصطلحوا على تسميته في المعاجم النباتيّة بالسمارة الرثّة، توجد أنواع نباتيّة أخرى مسمّاة بالرثّة أيضًا ولا أدري ما جذور هذه التسمية. للسمارة الرثّة زهور صفراء في منتهى الصغر، كنت أظنها مجرّد رؤوس صفراء من بعيد حين كنت أمر بها أو أقف لتصويرها، حتى اقتربت منها أشدّ القرب في ضحى أحد الأيام فتبيّنت بتلاتها المتفتّحة التي بالكاد تُرى. 


رؤية نوع السّمارة الثاني في ظهيرة رمضانيّة أعاد لي الرغبة في كتابة تدوينة انبثقت فكرتها في البدء أثناء وقوفي ذات يوم أمام نفلة وحيدة في الحيّ. ولأصدق القول، فأنني الآن أكتب التدوينة ثانية بعد أن حذفت الملف خطأً ولم أتمكّن من استعادته صباح هذا اليوم حين اقترب نومي، وقد كانت النيّة أن أواصل كتابتها في المساء، لا أن أعيدها.



 (٢) 


 راقبت في موسم ربيع نجد المنصرم نباتاته في كل مكان استطعت الوصول إليه، وقد أحصيت الأنواع المحدودة حينها التي نبتت في الحيّ، منها الذي لم أره من قبل إلا في البراري البعيدة، ومنه الذي لم أره مطلقًا حتى في حدود البراري التي وصلت إليها. من الملاحظ في السنوات الأخيرة تزايد نموّ النباتات البريّة داخل الأحياء في قلب العمران، لا الأحياء الطرفيّة وحسب. آنذاك، لم أفكر في غير مطاردة الربيع أينما كان، ولم تخطر لي أفكار أخرى تتجاوز الفضول تجاه أسماء الزهور وتاريخها في نجد وما ارتبط بها في الثقافة. في الموسم الحالي، الذي يوشك على نهايته، ازدادت الأنواع المزهرة التي نبتت في حارتي وحدها، هذا أكثر تنوّع اجتمع بحسب ما شهدت في بقعة بمساحة كيلومتر مربّع، حتى بلغت سبع عشرة نوعًا وهي: الشرشر والجثياء والحلاوى والشكاعى والعضيد والعفراء والربل والسمارة والحمّيض واليهق والتربة والنفل والخمخم والفنون والقرمل والقليقلان والراء. في إحدى جولات المساء في الحارة، اصطحبت «بناخيّ» الذي بدأ يتعرّف على الحروف في الرّوضة. كنت أسمّي له النباتات ليعرفها، حين مررنا بالراء قلت له وهذه الراء وسكتّ، فسألني «وش بعد؟» ظننته أن يسأل إن كان لها اسم آخر، فأجبته واسمها أيضًا الطرف، فأعاد مستفهمًا: «بس كمّلي الاسم اللي قلتيه.» لم ألتقط مقصده فورًا، فسألته أي اسم؟ فأجابني: «هذي -أشار إليها- قلتِ اسمها راء، وش بعد راء؟» ففهمت حينها أنه يظنّ أن ما قلته هو أول حرف من اسمها، أعدت عليه قولي بأن اسمها الراء فقط، هكذا الاسم قد اكتمل، فتعجّب: «حرف واحد وخلاص يخلّص اسمها!».



(٣) 


 في الموسم الحالي، حين وقفت في عصريّة أحد الأيام أتحقّق من إحدى الزهور إن كانت هي زهرة النفل أم لا، انتبهت إلى اسم نفلة ونفلاء للمؤنث ونفل ونافل للمذكر، القادمة كلها من هذه الزهرة الصفراء الهشّة! بالطبع ليست تسمية الإنسان على مخرجات بيئته والأشياء المحيطة به أمرًا خارقًا للعادة، فهذا تقليد عريق ومعروف في ثقافات مختلفة، لكن لم يسبق لي أن فكرت في مسألة التسمية على أشجارنا ونباتاتنا البريّة تحديدًا، وبالأخص فيما يخص الذكور، الأمر الذي تبيّن بالبحث أنه أشيع ممّا توقعت. 


لا أظن اليقين ممكن دائمًا في نسبة الاسم إلى مصدر واحد، لكن توجد أسماء عديدة أميل إلى ترجيح اقتباسها من النبات البريّ أو من مظاهر الربيع، لأنها لا تبدو منطقيّة في سياق آخر. ما أذكره هنا اجتهاد شخصي بطبيعة الحال، لا أملك عليه دليلًا، غير أن هذا ما استنبطته وما يبدو أنه الواقع. سأورد هنا الأسماء المسموعة التي لم أجد من أشار إليها من قبل أثناء بحثي، وهي قائمة قابلة للزيادة كلما حضرني اسم جديد، كما أشيد قبل ذكرها ببحث الدكتور أشرف محمد ساعدي علي المعنون «التسمية بأسماء النبات في المملكة العربيّة السعوديّة» والمنشور في عام ٢٠٢١م -لقراءته يُضغط هنا-. الذي أورد فيه العديد من الأسماء من مختلف المناطق، وقد تجنّبت هنا ذكر الأسماء التي وردت في بحثه. 


كما تجنّبت الأسماء التي أرجح أنها من المشترك بين تسمية الإنسان والحيوان والنبات مثل «عفراء»، إذ أرجّح أن اسم المؤنث عفراء واسم النبتة عفراء لم تتأثر ببعضها، بل هي من المشترك بين أسماء الإنسان والحيوان والنبات، فثمة امرأة عفراء وزهرة عفراء وناقة عفراء. مثلها مثل اسم كحيلة وكحيلاء ونبات الكحيلة. 


عَبْرِيّة/ مذكّرها العَبْرِي: على نوع من السدر، ورد في لسان العرب «السّدر لونان: فمنه عُبْرِيّ ومنه ضال، فأما العبري فما لا شوك فيه إلا ما لا يضير، وأما الضّال فهو ذو شوك.» 


رَزْنَة/ رِزْنَة/ أَرْزَان: مناقع الماء، المفرد منها رزنة والجمع أرزان. أرزان من نسخ الاسم المستعملة حديثًا، وقد ظننت أول ما سمعته أنه من الأسماء العشوائيّة التُي تختلق لها المعاني. 


سْمَارَة: على نبات السّمارة، واسمها الآخر شلوى الذي لا أعرف من تسمّى به عدا السيّدة التي ربّت «طيور شلوى» في الإرث الشعبي.


طرفة: مفرد الطرف، وهي الراء. 


مِزْنَة ومْزِينَة ومْزَانة: من المُزْن، واحدته مُزْنة وهي السحاب، وتصغيرها مُزَينة. من نسخ الاسم الدارجة حاليًا: مُزن ومزون.


مِنوِر: أي المكان المزهر، الذي ظهر فيه النوّار. 


نويّر: تصغير النوّار، وهو الزهر، حيث يقال في مفرد التصغير: نويّر ونوّيرة ونويويرة وجمعها نويّرات ونوّيرات ونواوير ونويويرات. لا أرجح أن يكون تصغير «نُورَة» وإلا لكان نويرة. تشترك في جذرها مع الاسم العربي العريق الجميل: نوَار للمؤنث، أي المرأة النافرة من القبيح. بالمناسبة، اسم نوَار اسم علم مذكّر في بادية نجد. أيضًا أثناء البحث قرأت شيئًا عجيبًا عن اسم نورة في لسان العرب: «نُورَة اسم امرأة سحّارة، ومنه قيل ينوّر عليه أي يخيّل، وليس بعربي صحيح.»



(٤) 


خلال انشغالي بالأسماء، استعاد ذهني ما قرأته ذات مرّة عن اسم «ڤانيسّا»، وهو اسم صاغه جوناثان سويفت، مؤلف «رحلات غاليفر» لتلميذته إستر ڤانهومراي (Esther Vanhomrigh) التي امتدت بينهما علاقة عاطفية لسبع عشرة سنة كانت وبالًا عليها، إذ هجرها من أجل أخرى وما طابت نفسها منه حتى ماتت. كان «إيسّا» هو اسم الدلال لإستر، أخذ جوناثان سويفت «ڤان» من اسم عائلتها وأتبعه باسم الدلال ليبتكر اسم «ڤانيسّا». ظهر الاسم لأول مرّة في عام ١٧٢٦م. في المطبوعات، ضمن قصيدة كانت سويفت قد كتبها عن علاقتهما في عام ١٧١٣م لكنه لم ينشرها إلا بعد وفاة ڤانيسّا بثلاث سنوات. أُطلق عالم الحيوان الدنماركي يوهان فابريكيوس لاحقًا الاسم « ڤانيسّا» على أحد أجناس الفراشات، الذي يعرف في العربيّة باسم «بشّورة». الله كم أود أن أتيقّن من أصل الأسماء العربيّة مثل هذا التيقّن!



(٥)



نعمت علوي بيك - ١٩٣٠م.
بعدسة المصوّرة الأميركيّة لي ميلر
 التي تزوّجت لاحقًا عزيز علوي بيك، زوج نعمت الأول. 


فيما أهمّ بقطف زهرة ذات شوك لأضعها في مزهريّة بيضاء حفرت عليها زهور صغيرة، مزهريّة بحجم كفّ طفل، أهداها إليّ أحد طلابي الصغار في يوم المعلم. استعاد ذهني فيما استعاد هذه الفترة الحكاية التي تُروى عن موت ريلكة. يقولون أنه الشاعر الذي قتلته زهرة، كأنّما قطفت الزهرة روحه إذ قطفها. لم تتسنّ لي فرصة مطاردة الحكاية من قبل، لكن من ظاهرها يبدو أنها مبالغة. تقول الحكاية أن الحسناء المصريّة من أصول تركيّة نعمت علوي بيك كانت محبوبة ريلكة، وقد جاءت لزيارته في أحد الأيام. هرع ريلكة إلى حديقته لينظم باقة زهور يقدّمها إلى نعمت، أثناء قطف الزهور وخزته شوكة إحداها، لم يشف جرحه، والتهبت ذراعه بأكملها مع الأيام، وتأثرت ذراعه الأخرى، وهكذا كما تقول الحكاية أن الزهرة التي قطفها من أجل نعمت قتلته. ربّما أن وخزة الشوكة قدحت الأعراض التي قادت إلى اكتشاف إصابته باللوكيميا التي أودت بحياته خلال شهر من الحادثة في آخر عام ١٩٢٦ وهو بين يدي طبيبه، بحسب رالف فريدمان الذي تتبّع سيرة ريلكة. أورد في كتابه أن نعمت خلال مرضه الأخير الذي أعقب قطفه للزهرة كانت تبعث له الزهور كل يوم، إلى أن بعث لها برسالة يرجوها أن تتوقّف، فريلكة الذي أحب الزهور بات يراها تجلب الشياطين إلى غرفته.


(٦)


لندع نعمت وريكلة وجوناثان سويفت ونعود إلى نجد، لا يُمكن أن يُذكر نبات القليقلان دون أن يذكر الكائن الخرافي «صيد أسعد». تنسب الخرافة اسم هذا الكائن إلى من صاده أول مرة، وهو المدعو أسعد، ولا تأبه كثيرًا بتتبع التسمية. معروف أن القليلقلان من النبات الرعوي الذي يسمن عليه الحيوان. تقول الخرافة أن صيد أسعد كائن غبيّ، له رأس وجذع وأذرع إنسان، وعجيزة وأرجل ضأن، لهذا غذاؤه القليلقلان الذي ينمّي قسمه الحيواني. تشير الخرافة إلى أن غباء صيد أسعد كان وراء انقراضه، وبسبب امتلاء قسمه الحيواني بالشحم الذي يطلبه الإنسان، صار مطاردًا، وكان البشر يجدونه قرب أماكن نمو القليقلان. في أحد المرات، ربما حين لم يظل غير ثلاثة منهم، تواروا خلف الأشجار حين مرّ بهم صيّاد. انتبه الصيّاد لأحدهم بسبب عجيزته التي أطلّت من وراء الشجرة فاصطاده، حينها شمت  صيد أسعد المتواري مخاطبًا أخاه: «جنيت على نفسك بالقليلقلان الذي تسابقني عليه.» فاصطاده الصيّاد إذ عرف مكانه بصوته، فقال الثالث: «اقمح، لولا حسّك ما دري بك!» فصاده الرجل وانقرضوا. 



«باقة بريّة»: صورة لمزهريّتي التقطتها عرضيًا لحسابي في انستغرام.




(٧)


لا أريد لذهني أن يشغل بغير الربيع. 

الأحد، 2 أبريل 2023

موسم ربيع نجد.


أحبّ نجد، ولا أدري إن كان هذا الحب سينبت في قلبي تجاهها لو لم أكن من نجد، لكنني كما لا أستطيع تصوّر نفسي ابنة لغير أهلي وبيتي، لا أستطيع تصوّر نفسي من أهل أي مكانٍ آخر وإن تزحزح شبرًا خارج عالية نجد، وربّما شبرًا خارج ديرتي بالأخص، وكما أؤمن أن الإنسان ابن بيئته بأوسع ما تحويه هذه العبارة، فلا أتصوّر أيضًا أن أكون أنا أنا لو لم تكن نجد العذيّة الصحراويّة من مكوّناتي التي شكّلتني. أحب نجد، هكذا (نجد)، دون أن أنزل عليها أي علامة إعراب، وليس للأمر علاقة بمسألة «كسرها» مثل القصة الملفّقة على ميّ زيادة والعقّاد، بل هذا مبناها الذي أحب، متجرّدًا من الحركات. أفكّر أحيانًا أنني لو تسمّيت باسم غير اسمي لربّما كان نجد -لبعض الوقت، ثم سأنتقل لبقيّة الأسماء التي أحبّها من وقت لآخر!-. وإن غضبت منها قلت ما قاله الشاعر مرزوق الثبيتي: «ليت لي قلب ما ياوي ولي جنحان طير، كان نجد أترك وطاها وروس هضابها، مير لا متّ والعمر لابن آدم قصير، ادفنوني في ثراها ووسط ترابها» ثم عدت أحبّها أكثر. عادةً ما يبدأ موسم ربيع نجد من منتصف أو أواخر الشتاء، قبل موعده الفلكي، فتخضرّ الأرض وتزهر بمختلف الأزهار زاهية الألوان، فثمة الأبيض والسماويّ والبنفسجي والخبّازي والأرجوانيّ والأحمر والزهريّ والأصفر. أحب في الأزهار البريّة أنها تنبت دونما زراعة، عذيّة تنمو وتزهر على ماء السماء لا تستسقي ولا تُسقى غيره، تستقل في وجودها دونما رعاية، وتنوس كتلويحة يدٍ صغيرة في بيداء شاسعة مهيبة، تباغت العين كأنما تبزغ فجأة في الأفق. أحب أنها تمثّل لي ما أحبّ في الوجود وأنشد: الرقة والزهو والصمود، في جمالها الوادع رغم موسميّتها الوقتيّة، ونشوزها بألوانها غير المتوقّعة عن جرد الصحراء من حولها، وسموّها الفارق من بين شقوق الأرصفة والإسمنت في دكنة المكان. من أجل كل هذا وأكثر نظمت مؤخرًا تعليقة لمفتاح سيارتي تحمل كلمة «زهرة بريّة».

 

* ملاحظة: يمكن تكبير الصور بالنقر عليها للمزيد من الوضوح.

 

العضيد (Launaea mucronata)، الكحيل (Echium rauwolfii)، الربلة ((Plantago amplexicaulis، الثغر (orettia parviflora):

 

العضيد الشرارة. 
قبيل سنوات، وأنا أجلس في صفّي أقرأ ديوان شعر مترجم في واحدة من حصص فراغي، طرقت بنيّة صغيرة من الصف الرابع الابتدائي الذي بدأت تدريسه حديثًا الباب تستأذن للدخول، جاءت مسرعة ووضعت منديلًا أبيض صغيرًا داخله شيء أصفر على مكتبي وقالت إنها هديّة لي وراحت تركض بمريولها الزهري خارجة قبل أن ترى ابتسامتي حالما كشفت عن الهديّة. كانت زهرة بريّة صغيرة، لم أعرف آنذاك ما اسمها. أغلقت عليها الديوان ليضغطها وتجف فيه، ظلت الزهرة التي عرفت لاحقًا أنها «العضيد» معي منذ ذلك اليوم حتى اللحظة التي أكتب فيها هذه التدوينة، في الديوان نفسه. أحب اسم هذه الزهرة عند بدو نجد: العضيد، وأستخدمها حصرًا ولا أفضّل أسماءها الفصحى من يعضيد وطرخشقوق وترخجقوق -المعذرة لكن ما هذه العداوة التي ترمى بها زهرة حلوة؟- وأحب كثيرًا من أسماء الزهور التي تبنّوها باختلاف طفيف عن نظيرها الفصيح.

 

«اليَعْضِيدُ بقلة، وهو الطَّرْخَشْقوق، وفي التهذيب: التَّرْخَجْقوق. قال ابن سيدهواليعضيد بقلة زهرها أَشد صفرة من الوَرْس، ... وقيل: هي بقلة من بقول الربيع فيها مَرارة.

وقال أَبو حنيفة اليعضيد بقلة من الأَحرار مرة، لها زهرة صفراء تشتهيها الإِبل والغنم والخيل أَيضاً تُعْجِبُ بها ...» 

- لسان العرب.

 

التقيت بالصغيرة بعدها وشكرتها على الهديّة التي توقّعت أنها قطفتها منذ اليوم السابق وسألتها كيف حافظت عليها منتعشة البتلات؟ فأخبرتني أنها حديثة القطف، وأن فناء المدرسة الخلفي -الذي لم أقصده قبلًا- مملوء بالزهور. أشعلت فيّ تلك الصغيرة بعضيدتها المشعّة ثانيةً ولعي بمطاردة الزهور البريّة. فصرت أفتّش فناء المدرسة في مواسمها بحثًا عنها، فأجد العضيد بصفرتها الفاقعة والكحيل ذات الألوان الزاهية المتراوحة من الزهري إلى البنفسجي -من أسمائها الكحلاء والكحيلاء ، والربلة والثغر -أو العفراء وهو اسمها الذي أحبّ، وبالمناسبة عفراء اسم علم مؤنث أحبّه أيضًا- ببياضهن الناصع الذي يدهشني صموده بعد كل موجة تسبّب الغبار والطين، بوجودهن المستمر رغم رقّتهن كأن هنالك من يتولّاهن بالحماية والتنظيف، والزهرة التي طاردتها طويلًا على بعد ساعة ونصف من بيتي بعد ذلك على مرّ أسابيع وفاجأتني في مكان غير متوقّع وكان لي معها قصّة سلّتني. 

 

«الكَحْلاء عُشْبة سُهْلية تنبُت على ساقٍ، ولها أَفْنان قليلة ليِّنة وورَق كورَق الرَّيْحان اللِّطاف خضرٌ ووَرْدة ناضرة، لا يرعاها شيء ولكنها حسنة المَنْظَر.» - لسان العرب، وفي القاموس المحيط عن نسغها: «أحْمَرُ كالدَّمِ، يَصْبُغُ اليَدَ إِذا مُسَّ، مَنْبِتُه الأرضُ الطَّيِّبَةُ التُّرْبَةِ.»

 

«الثغر من خيار العُشْبِ، وهي خضراء، ... وزَهْرتَها بيضاء، ينبت لها غِصَنَةٌ في أَصل واحد، وهي تنبت في جَلَدِ الأَرض ولا تنبت في الرمل.»

 

«الرَّبْل: ضروب من الشجر إِذا بَردَ الزمان عليها وأَدبر الصيف تَقطَّرَت بورق أَخضر من غير مطر، يقال منه: تَرَبَّلت الأَرض.»

- لسان العرب.

 

الحلاوى :(Fagonia indica Burm)

 

في أحد الأيام من العام الماضي، مررت صباحًا في طريقي للمدرسة بالحلاوى التي تعجّبت من طول عمرها مقارنة ببقيّة الزهور البريّة في المنطقة، كانت قد أزهرت منذ مدة طويلة وما تزال آنذاك على حالها هذا. عندما خرجت في الظهيرة هممت بتصويرها كي أبحث عن معلوماتها -حينها لم أعرف اسمها حتّى- فلم أجد ولا بتلة واحدة في ذلك المكان، مجرد نباتات شوكيّة. ظننت أنني توهّمت وجود زهرة بنفسجيّة بخمس بتلات رقيقة تتوسطها أسدية صفراء -أشكّ في نفسي أحيانًا، لذا شككت أن توهّماتي تصل إلى خلق الزهرة من خيالي-. في صباح اليوم التالي مررت بنفس الرقعة النابتة فرأيت الزهور البنفسجيّة الفاتحة ثانية، فقلت لنفسي: آها! مؤكد أنني بحثت ظهيرة يوم أمس في بقعة خضراء أخرى! استدرت فلم يكن في المكان غير هذه البقعة، ولأنني متأخرة بما يكفي لم أود أن يؤخرني تصوير النبتة فقلت إنني سأصوّرها ظهرًا، لكنني نسيت ظهيرة ذلك اليوم، وهكذا على مدار أسبوع كامل، إما أراها في الصباح وأنسى البحث عنها ظهرًا، وإما أنساها في الصباح ولا أجدها إذا ذكرتها ظهرًا. في يوم مبارك تذكّرتها صباحًا، وأظنني كنت قد بكّرت في المجيء إلى المدرسة لذلك وجدت وقتًا كافيًا لتصوير تلك الزهور، صوّرتها لأبحث عنها ولأقطع شكي بأنها موجودة حقًا. في اليوم نفسه أيضًا تذكّرتها في الظهيرة فقصدت الرقعة الخضراء لأراها ثانية ولكن لا شيء! هذه المرة انحنيت على النبتة بحثًا عن الأزاهير، وقد كنت قبل هذه المرة أراها من علوٍ، أمعنت النظر فوجدت أن الزهرة موجودة لكنها ليست بنفسجيّة، بل بيضاء، وليست متفتّحة، بل منغلقة ومنكمشة. لهذا بدت لي في المرات السابقة التي بحثت عنها فيها وأنا أطالعها من مسافة قطع منديل أو بقايا قطن صغيرة للغاية عالقة في الشوك. على مرّ الأيام التالية صرت أبكّر في مشواري كي ألحق بها قبل أن تنام، لأن رمضان قد حان آنذاك وبتّ أصل إلى مدرستي على التوقيت الرمضاني قبيل الساعة العاشرة صباحًا، لحقت بها في بعض الأيام، وسبقتني إلى النوم في أخرى، ووجدتها قد أبيضّت في أيام، وفي أخرى كانت في طور انغلاقها البنفسجي، ووجدت زهرة مارقة عن جماعتها ذات مرّة، نامت كل الزهرات إلا هي -أو ربما أنها نامت معهن ثم استيقظت مثلما فعل مومين حين استيقظ من بيات قوم المومين الشتوي في «منتصف الشتاء في وادي المومين» لتوڤه يانسون-. عرفت بالملاحظة أن زهر الحلاوى يتفتّح في ساعات الصباح الأولى وحالما ترتفع الشمس وتشتدّ بنغلق وينكمش ويبيضّ. 

 

«الحلاوى من الجَنْبة: شجَرة تدوم خُضْرتَها، وقيل: هي شجرة صغيرة ذات شوك. نَبْتة زَهْرتها صفراء ولها شوك كثير وورق صغار مستدير مثل ورق السذاب، والجمع حُلاوَيات، وقيل: الجمع كالواحد. التهذيبالحَلاوى ضرب من النبات يكون بالبادية، والواحدة حَلاوِيَة ...» - لسان العرب.

 

لي في يمين البيت مركن ثابت، من أجل هذا لم ألتفت إلى يسار البيت قط، وبعد أن قضيت أيامًا طوال في مطاردة الحلاوى، على بعد ساعة ونصف من بيتي، والتبكير في المسير من أجلها، ثم في أحد الأيام ركنت سيّارتي يسار بيتنا على غير العادة. عندما خرجت في اليوم التالي واتْجهت إليها انتبهت إلى حلاويات منبثقة من شقوق رصيف البيت، على يساره الذي لم تخطر ببالي فكرة النظر إليه. ضحكت وقلت في نفسي: صدق من قال ما تبحث عنه بعيدًا يقطن بقربك! وشاركت هذه الفكرة على حسابي في انستغرام، فعلّقت صديقة بقولها: «أظنها لحقتك.» وما أرق خيالها إذ رأت أن تقتفي الزهرة أثري!

 

الحلاوى متفتّحة.
الحلاوى في أول انغلاقها.
هذه صور الحلاوى التي التقطتها العام الماضي، ليست أجود الصور لكنّها تفي بغرض ما أود أن أشير إليه. في الصورة الأولى زهرتها متفتحة في الصباح الباكر، وقد عرفت حين اكتشفت وجودها بجانب بيتي، إذ صار بوسعي أن أراقبها على فترات متفرقة كثيرة طيلة اليوم، أنها تتفتّح من وقت السحر. في الثانية أول ما تنغلق مع زيادة درجة الحرارة، بناءً على ما لاحظت من اختلاف لمواقيته على مرّ الأشهر. ثم تبيَضّ بتلاتها تدريجيًا وتصل لما هي عليه في الصورة الثالثة عند اشتداد الحرارة في الظهيرة غالبًا. 


 

الحلاوى مُبيضّة.

في تلك الفترة كنت قد بدأت الذهاب إلى العمل بسيّارتي تخلّصت من أزمة مواصلات العمل وقيودها، صرت أتوقف حيث شئت على الطريق الطويل متى شئت قدر ما شئت -لا تخبروا أمي-، كلّما لفتني لون في الصحراء على جنبات الطريق أدرت مقود سيّارتي وتوجّهت إليه، لكن في حدود الردميّة -الطريق الممهّد غير المعبّد بالإسفلت- وحسب، فسيّارتي ليست مؤهلة لما هو أبعد دون خطر التغريز

يا إلهي، ما أجمل قول سيّارتي! -أحبّها وأحب من وثائقي رخصة السير إذ تحمل معلوماتنا معًا-.

 

 

الحوذان (Picris babylonica)، العرار (Pulicaria guestii)، الجثياء (Pulicaria undulata):

 

في إحدى الأيام، في ظهيرة رمضانيّة، لفتتني صفرة مشعّة على جانب الطريق، فتوجهت إليها. أوقفت السيارة بجانب البقعة الصفراء وهي مشغّلة، واكتفيت بوضع ناقل الحركة في (N) ونزلت. لم تبد الأرض لي منحدرة أبدًا، لكنني عرفت هذا حين غابت سيّارتي عن زاوية عيني وأنا منبهرة بالحوذان والعرار والجثياء -الجثجاث-، جميعها صفراء، وشميمها المنتشر في المكان، عرفت حينها شميم العرار الذي تحسّر عليه شاعر بيت «تمتّع من شميم عرار نجد، فما بعد العشيّة من عرار.» ولا فرق عندي إن كان لقيس بن الملوّح أو للصمّة القشيري أو غيرهما. انحدرت السيّارة ببطء شديد إلى الطريق الذي يتوسّط القريّة التي توقّفت فيها كثيرًا بعد ذلك من أجل الربيع الأصفر، لحقت بها وأوقفتها وأنا فزعة أتصوّر أنها انحدرت بسرعة واصطدمت بشاحنة أراها في الأفق، نجوت بميل الأرض الخفيّ البسيط. ثم تحول الفزع إلى قهقهة، ورحت أتلفّت إن رآني أحدٌ أم لا، لم أرغب أن تصل الحكاية إلى طالباتي وأنا حديثة عهد بالقيادة ولديّ تحسّس من الأخطاء بهذا الخصوص في تلك المرحلة -تجاوزت التحسّس أسرع مما توقّعت-. من بعدها حتّى عند بيتي لا أترك السيّارة في (N)، بل ولا أتركها مشغلّة إن نزلت منها ولو كان لبضع دقائق. 

 

«الحَوْذانُ نبت يرتفع قدر الذراع له زهرة حمراء في أَصلها صفرة وورقته ... وهو من نبات السهل حلو طيب الطعم؛ وهو نبات مثل الهِنْدِبا ولها زهرة صفراء. وفي حديث قس عمير حَوْذانالحوذان نبت له ورق وقصب ونَور أَصفر.»

 

«الجَثْجاثُ: نَبات سُهْليٌّ رَبيعي إِذا أَحَسَّ بالصيف وَلَّى وجَفَّ؛ قال أَبو حنيفة: الجَثْجاثُ من أَحرار الشجر، وهو أَخضر، ينبت بالقَيْظ، له زهرة صَفْراء كأَنها زَهْرةُ عَرْفَجةٍ طيبةُ الريح تأْكله الإِبل إِذا لم تجد غيره ... واحدتُه جَثْجاثَةٌ. ... الجَثْجاثُ شَجر أَصفرٌ مُرٌّ طَيِّبُ الريح، تَسْتَطِيبُه العربُ وتكثر ذكره في أَشعارها. ... وشَعَرٌ جُثاجثٌ، بالضم، ونبت جُثاجث أَي مُلْتَفٌّ.»

 

«العرار: بَهارُ البَرِّ وهو نبت طيب الريح؛ قال ابن بري: وهو النرجس البَرِّي؛ ... واحدته عَرارة؛ قال الأَعشى: بَيْضاء غُدْوَتها، وصَفْـراء العَشِيّة كالعَرارة، معناه أَن المرأَة الناصعةَ البياض الرقيقةَ البشرة تَبْيَضّ بالغداة ببياض الشمس، وتَصْفَرّ بالعشيّ باصفرارها.» 

 

يتشابه الجثجاث والعرار كثيرًا، وهما المذكوران في بيت كثير عزّة الذي استنكرته سكينة بنت الحسين، حين قال إن عزّة متطيبة بالمندل أطيب من أرض تعبق بالجثجاث والعرار، وأشارت إلى ضعف الصورة البلاغية، فما من واحدة تتطيّب بالمندل إلا وتفوق ما سواها في طيب الرائحة. وأتمّت بعد أن قالت له «ويحك!» بقولها: «ألا قلت كما قال عَمّك امرؤ القيس:

ألم تَريَاني كُلما جِئْتُ طارقًا، وجدتُ بها طِيبًا وإن لم تَطَيّبِ.»

 

 

اليهق (Diplotaxis acris):

 

اليهق.


خلال واحدة من مشاويرنا إلى البرّ وأنا صغيرة، سرت كعادتي منشقّةً عن البقيّة، في وجهتي الخاصّة. وجدت حينها شجيرة مليئة بالشوك لها ثمار حمر صغيرة، تشبه الطماطم في القشرة الخارجيّة، قطفتها وأكلتها، وأنا أتذكر الحادثة قبل سنوات قلت لا بد أنها لذيذة لأني حمّلت جيوبي منها آنذاك وجازفت بالتعرّض لوخز الشوك -وأنا لا أحب أن أؤلم نفسي أدنى ألم- وعدت بها إلى أهلي كي يتذوّقونها. حين أفرغت جيوبي أمام أهلي وُبِّخت على ما حملت! كانت ثمار «العوشز» المحرّمة كما نسمّيها، أو العوسج كما هي في الفصحى. للعوشز خرافة عند البدو تقول إنها من أشجار الجن، معها يخرجون من تحت الأرض إلى سطحها، وهي في حمايتهم، لذلك لا يؤكل ثمرها ولا تُقرب هذه الشجرة حتّى، وثمة من يبالغ في الخرافة وأظن هذه المبالغة للتسلية فيقول إن ترك الصغار في محيط العوشز يعرّضهم لنشل الجنّ الذين يستبدلونهم بفرد من الجن يطابق البشريّ المنشول، ويسمّى الجني البديل هذا «المشيول» في إشارة للطفل الذي شاله الجن. قبل أيّام تأكّدت لي حلاوتها من مثل قرأته في أحد كتب الأمثال يقول: «أحلى من مصعة.» يضرب لأمرٍ شديد الحلاوة، والمصعة ثمرة العوسج، كم فوّت البدو على أنفسهم من مصع شهيّ بهذه الخرافة! وبالعودة إلى سنين الصغر، كنت قاطفة يهق وحميّض محترفة ومتفانية. كان لنبات اليهق والحمّيض مكانة مميّزة، فهما مما يؤكل من نبات الصحراء. اليهق هو الجرجير البرّي، وقد سمّاه العرب النهق والأيهقان، لكن طبعًا اسمنا له أجمل! حين يحين موسمهما، كنّا نذهب إلى الجبال لقطفهما. يحمل كل واحد منّا كيسين ليضع فيها ما قطف، أحدهما لليهق والآخر للحمّيض، كنت أصعد إلى قمة الجبل، فلا تحب أمي أن تأكل ما ينبت في أسفله، وعندما أقرّع القمة أنزل وأكمل على صدف الجبل وأتوقف عند أسفله. نقطف الكثير منه، وأحيانًا على أيام من جبال عديدة، نبقي على بعضه ونهدي الآخر. لم يخطر لنا أكل زهرة اليهق الخبّازية الأخّاذة من قبل، لكنني أكلتها في الشهر المنصرم وأعجبتني، بعدما أكلت زهرة الفنون، وببحث سريع تبيّن لي أنها مما يؤكل من نبات البرّ أيضًا! 

 

في معرض بحثي عن اليهق (الخفج اللاذع) وجدت في اللسان: «الأيهقان: ... عشبة تطول في السماء طولًا شديدًا ولها وردة حمراء وورقة عريضة.» لفتني أنه سمّى لونها بالأحمر، فيما اللون الذي أراه خبّازي «Mauve». استبعدت في البدء أن يسمّي اللسان الخبازيّ أحمر، قلت لا بد من وجود خفج أحمر الزهر كأبيض الزهر وأصفره، فبحثت ولم أجد. خطر لي بعدها التحقق من الخاطر الذي استبعدته، بحثت بأقرب لون للخبّاز أرجّح وروده في اللسان وهو الأرجوان، فوجدت: «الأرجوان: الأحمر.» ثم بحثت عن الخزامى فوجدت في لسان العرب: «عُشْبَةٌ طويلة العيدان صغيرة الورق حمراء الزهرة طيبة الريح …». يبدو أن العرب سمّت الخبّازي أحمر، يرجّح هذا لون زهرة اليهق والخزامى البيّن والقياس على الأرجوان.

 

 

الفنون (Arnebia hispidissima):

 

الفنون.

الفنون البهيّة الصفراء، من أوائل الزهور التي ولّعتني بالبحث عن أسماء النباتات البريّة ووصفها منذ سنوات طويلة، قبل أن يسهل البحث أكثز كما هو اليوم. تسمى أيضًا الأطن والفهنة وحشيشة الأرنب ومليح، كما تسمى أرينبة -تصغير أرنب-، ودميم الغزال -دميم تصغير دم- لأن نسغها أحمر، ورد أن البدويات استخدمنه لتحمير الخدود والشفاه، وهو يستخدم حتى اليوم في بعض البلدان ملوّن طعام وأقمشة، كما قرأت وسمعت أن البدو يستخدمون زهرة الفنون لتحلية حليب الإبل، كما تؤكل لوحدها وهي حالية الطعم، لكنني حين سألت كبار العائلة لم يذكروا غير تحلية الحليب بزهورها. دخلت الإنجليزيّة من العربيّة أرينبة أو شجرة الأرنب، مرّ بي في المراجع الإنجليزية أيضًا أنها تعرف بزهرة الربيع العربيّة

 


خلال بحثي عنها صادفت زهرة أخرى من الفصيلة الحمحميّة (Arnebia echioides) وورد في المراجع نفسها أنها تسمى زهرة النبي -محمد عليه الصلاة والسلام-، وهي مشابهة كثيرًا للفنون غير أنها عندما تتفتّح، تتفتّح بنقطة بنيّة لكل بتلة من بتلاتها الخمس، النقطة التي تتلاشى تدريجيًا حتى تختفي في يوم تفتّحها الثالث. تعزو المراجع التسمية إلى الثقافة الإسلامية التي تعتبر هذه النقاط الخمسة بصمات النبي عليه السلام عندما لمس النبتة، ولم أجد مثل هذا عندما بحثت بالعربيّة. ربّما أنها تسمية وحكاية من الأقطار الإسلامية الأخرى. الفنون وأذن الفأر (زهرة لا تنسني) تنتميان لنفس الفصيلة. 

 

 

 

البَروَق (Asphodelus)، الشيخة النهريّة (Senecio flavus)، التّربة (Silene villosa)، عين البقر(Pallenis hierochuntica):

 

التّربة.



أحدث ما تعرّفت عليه من الزهور البريّة البروَق وعين البقر التي لم أر وجه الشبه بينها وبين البقرة، والتربة البيضاء التي حيّرتني، كأنها زهرتان أو زهرة من طبقتان واحدة صغيرة وأخرى كبيرة، والشيخة النهريّة التي ظننتها في البدء هندباء بسبب إحدى زهراتها المليئة بالزغب، تشبه الهندباء حينما تتحوّل زهرتها إلى كرة بذور محاطة بالزغب لتطير بعد ذلك في الهواء، هذا الزغب سبب تسميتها باللاتينية لأنها تشبه شعث الشعر وبياضه في الشيخوخة. بالمناسبة، عندما كنّا نجهل ماهيّة الشيء البيض الشعري الصغير الذي يطير في الهواء كنّا نسمّيه في بيتنا غزالًا، واستمرّينا في هذه التسمية حتى بعد المعرفة. وجدت في مرجع لأسماء النباتات المحليّة تابع لقسم النبات والأحياء الدقيقة في جامعة الملك سعود أن اسمها حمض البهايم. 

الشيخة النهريّة.



 

بروق قبل التفتّح.

أمّا البروق أو البروَقة -أحبّها مؤنثة- فهي أشدّ ما أسرني حديثًا. لها زهرة بيضاء رقيقة صغيرة من أجمل ما رأيت في الزهور، يتوسطها خط بني، غصنها دقيق للغاية حتى لا يكاد يُرى وكأنها متعلّقة في الهواء، منظومة على الساق بروعة لا تضاهى في تفتّحها وانغلاقها. هي في الفصحى كما هي في العاميّة، بروق أو بروقة، وأيضًا برواق. بعدما قرأت عن رمزيّتها عند العرب أحببتها أكثر.

 

«البَرْوَقُما يكْسُو الأَرض من أَوّل خُضْرة النبات، ... شجر ضعيف له ثمر حبٌّ أسود صغار، قال: أَخبرني أَعرابي قالالبَرْوَقُ نبت ضعيف رَيّانُ له خِطَرةٌ دِقاقٌ، في رُؤوسِها قَماعِيلُ صِغار مثل الحِمَّص، فيها حبّ أسود ولا يرعاها شيء ولا تؤكل وحدها لأَنها تُورِث التَّهَبُّجَ؛ وقال بعضهم: هي بقلة سَوْء تَنْبُت في أوّل البقل لها قَصبة مثل السِّياط وثمرة سَوْداء.»

 

زهرة الخمخم التي اختلطت عليّ مع البروَق المتفتّح.

الخطرة هي الأغصان والقماعيل هي البراعم. في الأمثال العربية يضرب به المثل في الشكر فيقال «أشكر من بروقة، وذلك أنه يَعِيشُ بأدْنى ندَّى يقع من السماء، وقيل: لأَنه يخضرّ إذا رأى السحاب.» وفي رواية عن المثل قيل إنه ينبت بالندى فقط، وقيل ينبت بالغيم دون مطر. يمثّل بها أيضًا على الضعف، فيقال «أضعف من بروقة» لأنها تهلك إذا أصابها المطر الغزير أو تذبل إذا اشتدت عليها حرارة الشمس. 

 

خلال بحثي من أجل كتابة هذه التدوينة صادفت فتاة في رواية «راجناروك» التي تمرّ بي لأول مرة، تشبه ما أنا عليه من ولع بمطاردة الأزهار البريّة وأسماءها، وأريد أن أقرأها على الفور، ولحسن الحظ توجد منها نسخة متاحة على الشبكة طبعًا لأنها من مشورات مؤسسة هنداوي. حسنًا، يجب أن أتوقف هنا، وإلا لن تنتهي هذه التدوينة. 

 

الخميس، 4 نوفمبر 2021

كنّاشة الأسبوع. -٦-

 

 

 

(٢٣)

«ماذا لو أغراك صوب البحر، 

يا سيّدي اللورد

أو إلى قمّة المنحدر الصخري المرعبة

تلك المعلّقة على قاعدتها في البحر

وهناك ينتحل شكلاً مخيفاً آخر،

قد يجرّدك من السيطرة على عقلك

ويسحبك قريباً من الجنون. 

فكّرْ في ذلك.

المكان وحده دون باعث آخر،

يضع في كلّ دماغ حوافز للانتحار

إذا هو نظر إلى مسافات بعيدة في البحر

وسمع هديره من الأسفل.»

- مقطع من مسرحيّة «هاملت، الفصل الأول - المشهد الرابع» يحاول فيه هوراشيو أن يثني هاملت عن اللحاق بالشبح، بترجمة صلاح نيازي، مقتبس من مقالته «دور المنظوريّة في تضخيم الرعب».

 

(٢٤)

 

كنت قد وقفت قبالة البحر لأول مرة قبل قراءتي لهذه المقالة بسنوات، ولمع في ذهني حينها شيء وحيد: كيف يقاوم الإنسان، خاصة إذا ما كان على مرتفع من البحر، القفز فيه؟ ليس لهذا علاقة بأي أفكار انتحاريّة، بدا لي كأن القفز هو السلوك الطبيعي في مواجهة البحر وشعرت لوهلة أنني أود ذلك. لم أعرف كيف بدأت هذه الأفكار في ذهني. لكنني انتبهت الآن وأنا أكتب هذه التدوينة أنني قرأت «هاملت» في وقت مبكّر قبل أن أعرف شكسبير حتى، وقبل أن يضطرني نشاط لمادة اللغة الإنجليزية في الصف الثالث المتوسط إلى قراءة نسخة مبسطّة ومحدّثة من المسرحيّة. صادفت المسرحيّة مترجمة خلال تصفحي لموقع «tipsclub» لتحميل الكتب، كنت أحمّل منه كتبًا عشوائية وأقرأها حينذاك. يبدو أن بداية الفكرة جاءت من هناك، من قراءتي الأولى لهاملت. لكن ليست تلك المرّة الأولى التي أشعر فيها أن الانغماس في خطرٍ ما هو رد الفعل العفوي الفوري، أعني في مواجهة البحر هذه المرة، فقبلها كلما فتحت نشّافة الغسيل ذات الفوّهة العلويّة شعرت برغبة شديدة في مد ذراعي داخلها، وهو عين ما حذّرتني أمي منه منذ بدأت غسيل ملابسي بنفسي في سن العاشرة وقالت لي أن ذراعي ستُكسر في النشافة إن فعلت، مع هذا فعلتها مرّة، لكن والنشافة بطيئة توشك على التوقف، مع ذلك التفّت الملابس عليها وضربت في الحافّة وآلمتني بشدّة. ما أزال حتى اليوم، كلما استخدمتها فتحتها قبل أن تكمل دورتها وتتوقف، وأنا أفكر في مدّ ذراعي ثانية، لكن بالطبع لم أعد أجرؤ بعد تلك المرة.

بحثت بعد زيارتي للبحر في الإنترنت عن المسألة، لكنني لم أجد شيئًا، ولم أعرف أنها ظاهرة قد دُرست لمرتين وحسب وتدعى «ظاهرة الأماكن المرتفعة - HPP» -المرة الأولى في ٢٠١١ والثانية في ٢٠٢٠، أتطرّق للدراستين في فقرة (٢٦) من هذه التدوينة -، أو ربّما أن مهارتي في البحث حينها قصرت عن منحي أي نتيجة. لكنها عادت إلى ذهني هذه الأيام حين بحثت عن موضوع يخص التعامل مع بعض مواقف الطريق، فمرّ بي تحذير: لا تحدّق في أي جسم على الطريق، ستقود باتّجاه ما تنظر إليه، ولأنني خبرت هذا مرّة أو اثنتين، أثار التحذير اهتمامي فتركت ما بدأت البحث عنه وتحوّل الأمر إلى البحث عن هذا التحذير والظاهرة المرتبطة به.

 


(٢٥)


يطلق مصطلح «fixation Target» في الإنجليزيّة على ظاهرة الانهماك في التركيز على جسم -هدف- إما لإصابته أو لتجنّبه إلى حدٍ ينتج عنه الاصطدام بهذا الهدف نفسه، وراحت تعني في الثقافة المتداولة انكباب الإنسان على ما يودّ اجتنابه. بدأت ملاحظة هذه الظاهرة في الحرب العالمية الأولى، حيث اصطدم طيارون حربيّون بالأهداف بدلًا من قصفها والتحليق بعيدًا عنها. ينتج هذا بسبب التركيز الشديد على الهدف مما يحجب الوعي بالمعطيات الأخرى ومعالجتها. 

تنطبق هه الظاهرة على قائدي المركبات في حال السرعة، خاصةً في المواقف الخطرة حين يظهر فجأة جسم متحرّك باتجاههم على الطريق، أكان مركبة أخرى أو حيوان، أو حتى عند انتباههم المفاجئ للمنحدرات، فيهلع قائد المركبة، ويحدّق في الخطر بتركيز متزايد حتى ينكبّ عليه ثم … طخ! 

لا يحدث هذا عند الهلع وحسب، بل حين ينتبه القائد أيضًا إلى جسم يلفت انتباهه، كحادث وقع أمامه على الطريق -حينها من المحتمل أن ينضمّ إليه ما لم يحاذر!-، وكالسيّارات التي تقف على كتف الطريق وتثير فضوله ثم لا يحوّل انتباهه عنها، فيصطدم بها. لذا نجد نصيحة متكرّرة لقائدي المركبات: لا تقف على كتف الطريق إلا مضطرًا، لمشكلة تمنعك من مواصلة القيادة، ارتد حزام الأمان إن بقيت في السيّارة، وإن أمكن أن تترجّل منها فقف بعيدًا عنها في مكان لا يخفيك، إذ لأنك لا تشكل خطرًا على السيّارات ولا تستدعي انتباهًا فمن غير المرجح أن تكون الجسم الذي يوقع القائد في الفخ. لا تقف أمامها ولا خلفها ولا بجانبها بمسافة تسمح بتحقق ضرر عليك إذا ما اصطدم بها سائق تحت تأثير «التركيز على الهدف». تتكرّر الظاهرة بدرجة أعلى لدى سائقي الدرّاجات، إذ يتحكم الجسد بأكمله في حركة الدراجة، فتتجه بهم حيث يحدّقون. مرّ بي أن أحد أولى المبادئ التي يعلّم عليها سائق الدراجة: انظر حيث تريد الذهاب. 


شرين عبد الحليم.


ليس لردة الفعل هذه علاقة بالكفاءة، ولا بالذكاء، ولا التمكّن، ولا الخبرة، فهي تصدر عن ممارسين أكفاء ذوي خبرة في لحظات ما من حياتهم، تعتمد نجاة المرء منها على خطورة الموقف، لكنها قد تكون قاتلة. الحديث عن هذه الظاهرة من الخارج يبدو سهلًا: لا تحدّق في الخطر وامض بعيدًا، لكن معايشتها أمر آخر. تُعزى هذه الظاهرة إلى استجابة «الكر والفر - Fight or flight » الغريزيّة لدى الإنسان، فهو إذا ما حدّق به الخطر المميت إما يقاتل أو يهرب -أو يتجمّد مكانه-، لذا في مثل هذا الوضع، يجد الإنسان الميّال إلى استجابة القتال نفسه مدفوعًا إلى ما يهدّده، وإذ يستلزم القتال أن يتثبّت من الهدف فهو لا يغادره بعينيه، سيثمر هذا ربّما في مواجهات لا بد من القتال البدني فيها، لكن مع المركبات؟ أبدًا، بل عليه بالطبع أن يتصرّف بذكاء ويتدرّب قليلًا على استجابة الهرب قبل أن يتعرّض لمثل هذه المواقف ويتصرف وفق ما تمليه فطرته المهلكة. 

 


(٢٦)

درس علماء نفسيّون من جامعة فلوريدا الحالة التي تصيب الإنسان حين يقف على مرتفع ويرغب في الإلقاء بنفسه لأول مرة في عام ٢٠١١ وأسموها «ظاهرة الأماكن المرتفعة - High Place Phenomenon». توصّلوا في هذه الدراسة إلى أنها ظاهرة لا يمكن أن توصف بالنادرة، إذ شعرت نصف العينة تقريبًا بهذا الشعور، كما لا تدل بالضرورة على ميول انتحاريّة كما يُعتقد -أكدت هذه النتيجة هذه الدراسة التي عقدت في ٢٠٢٠-، بل هي على العكس تنجم عن تأويل إشارة طلب الأمان بالهرب من الخطر تأويلًا خاطئًا. قد تكون طريقة الدماغ المعقّدة التي يعبر بها عن رغبته في الحياة. وخلصوا إلى أن الظاهرة منتشرة عند ذوي الميول الانتحارية وغيرهم على السواء. تقول الباحثة أبريل سميث، وهي من القائمين بهذه الدراسة، أن هذه الظاهرة تحدث بسبب خلل في التواصل يصيب أدمغتنا، فبعض أنظمة الدماغ تعالج المعلومات بسرعة تفوق غيرها وخارج مدى وعينا. لذا ربّما حين نقف على مرتفع، ترسل أدمغتنا إشارة إنذار - كي نحذر، فيقودنا هذا إلى التراجع خطوة إلى الوراء أو الانتباه لما يحيط بنا. عندها نسيئ قراءة ما حدث، نجد أنفسنا في مأمن فنتساءل لم تراجعنا خطوة ولم نكن نوشك على السقوط؟ لم الردع بينما لا يوجد ما يدعونا للخوف؟ وهكذا يقول المرء لا بد أنني هممت بالقفز! لا شيء أكيد في دراسة هذه الظاهرة غير تأكيد شيوعها، أما تبقى فمحاولات لتفسيرها. 

ولأن رغبة الانغماس في المهالك لا تقتصر على القفز من المرتفعات، فهي حاضرة مع كل خطر يحدق بالإنسان، أكان وقوفه على جرف أو أمام سكة قطار قريب أو عند الاقتراب من النار وغيرها من الأمور التي تهدّد سلامته -أو في حالتي: نشّافة الملابس، يبدو أنني خفت كثيرًا نتيجة تحذيرات أمي-، فقد عُرفت أيضًا باسم آخر، شاعري وجذّاب: «نداء الفراغ». 

 


(٢٧)

تنطلق الظاهرتان ربّما من غريزة واحدة، غريزة البقاء التي تقودنا إلى ميكانيكيّة الدفاع البدائيّة التي ورثناها عن أسلافنا «الكرّ والفر»، فاستجابة الهرب التي يساء تأويلها عند الشعور بنداء الفراغ، وسوء تقدير الاستجابة الملائمة حين تستيقظ فينا هذه الغريزة هو الذي يدفع قائد المركبة أو الدرّاجة إلى الانكباب على الخطر عند مواجهة أجسام تتجه إلينا في الطرقات. أفكر الآن أن من غير الممكن تفسير انكباب الفراشات على النار في ضوء سوء تقدير الاستجابة الذي يصيبنا، لكن ما دمنا قد أوّلنا سلوك الفراشات ولعًا بالنور، فما الذي يمنعنا من أن نعزوه لهذا أيضًا؟ :p

(يخطر لي الآن البحث عن سلوك الفراشات الذي يقودها إلى نهاية مؤلمة، لكن كفى فضولًا لهذا اليوم، كما لا أود أن تفسد المعرفة فكرة شاعريّة أحبها عن احتراق الفراشات.)